فصل: ذكر قتل الأمير أبي القاسم أمير صقلية وهزيمة الفرنج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية:

في هذه السنة سير عضد الدولة جيشاً إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل، فأوقع بهم وحصر قلاعهم، وطال مقام الجند في حصرها.
وكان من بالحصون من الأكراد ينتظرون نزول الثلج لترحل العساكر عنهم، فقدر الله تعالى أن الثلج تأخر نزوله في تلك السنة، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأجيبوا إلى ذلك، وسلموا قلاعهم، ونزلوا مع العسكر إلى الموصل، فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج.
ثم إن مقدم الجيش غدر بهم، وصلبهم على جانبي الطريق من معلثايا إلى الموصل نحو خمسة فراسخ وكف الله شرهم عن الناس.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ورد رسول العزيز بالله صاحب مصر إلى عضد الدولة برسائل أداها.
وفيها قبض عضد الدولة على محمد بن عمر العلوي وأنفذه إلى فارس، وكان سبب قبضه ما تكلم به المطهر في حقه عند موته، وأرسل إلى الكوفة فقبض أمواله، فوجد له من المال والسلاح والذخائر ما لا يحصى، واصطنع عضد الدولة أخاه أبا الفتح أحمد، وولاه الحج بالناس.
وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة، فتزوج الطائع ابنته، وكان غرض عضد الدولة أن تلد ابنته ولداً ذكراً فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب، وكان الصداق مائة ألف دينار.
وفيها كانت فتنة عظيمة ين عامة شيراز من المسلمين وبين المجوس، نهبت فيها دور المجوس، وضربوا، وقتل منهم جماعة، فسمع عضد الدولة الخبر، فسير إليهم من جمع كل من له أثر في ذلك، وضربهم، وبالغ في تأديبهم وزجرهم.
وفيها أرسل سرية إلى عين التمر، وبها ضبة بن محمد الأسدي، وكان يسلك سبيل اللصوص وقطاع الطريق، فلم يشعر إلا والعساكر معه، فترك أهله وماله ونجا بنفسه فريداً، وأخذ ماله وأهله، وملكت عين التمر، وكان قبل ذلك قد نهب مشهد الحين، صلوات الله عليه، فعوقب بهذا.
وفيها قبض عضد الدولة على النقيب أبي أحمد الحسين الموسوي، والد الشريف الرضي، وعلى أخيه أبي عبدالله، وعلى قاضي القضاة أبي محمد وسيرهم إلى فارس، واستعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين، وهو شيخ كبير، وكان مقيماً بفارس، واستناب على القضاء ببغداد.
وفيها توفي أبو عبدالله أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء الروذباري، الصوفي، بنواحي عكا، وكان قد انتقل من بغداد إلى الشام.
وفيها، في ذي الحجة، توفي محمد بن عيسى بن عمرويه أبو أحمد الجلودي الزاهد، راوي صحيح مسلم عن ابن سفيان، ودفن بالحيرة في نيسابور وله ثمانون سنة.
الجلودي بفتح الجيم، وقيل بضمها، وهو قليل، والحيرة بكسر الحاء المهملة وبالراء المهملة، وهي محلة بنيسابور.
وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن زكرياء بن فارس اللغوي، صاحب كتاب المجمل وغيره. وله شعر، فمن ذلك قوله قبل وفاته بيومين:
يا ربّ إنّ ذنوبي قد أحطت بها ** علماً، وبي وبإعلاني وإسراري

أنا الموحّد لكنّي المقرّ بها، ** فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري

وفي شوال توفي أبو الحسن ثابت بن إبراهيم الحراني المتطبب، الصابي، ومولده بالرقة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وكان عارفاً حاذقاً في الطب. ثم دخلت:

.سنة سبعين وثلاثمائة:

.ذكر إقطاع مؤيد الدولة همذان:

في هذه السنة أرسل الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد إلى عضد الدولة بهمذان رسولاً من عند أخيه مؤيد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة، فالتقاه عضد الدولة بنفسه، وأكرمه، وأقطع أخاه مؤيد الدولة همذان وغيرها، وأقام عند عضد الدولة إلى أن عاد إلى بغداد، فرده إلى مؤيد الدولة، فأقطعه إقطاعاً كثيراً، وسير معه عسكراً يكون عند مؤيد الدولة في خدمته.

.ذكر قتل أولاد حسنويه سوى بدر:

لما خلع عضد الدولة على بدر وأخويه عاصم وعبد الملك، وفضل بدراً عليهما وولاه الأكراد حسده أخواه، فشقا العصا، وخرجا عن الطاعة، واستمال عاصم جماعة الأكراد المخالفين، فاجتمعوا عليه، فسير إليه عضد الدولة عسكراً، فأوقعوا بعاصم ومن معه، فانهزموا، وأسر عاصم، وأدخل همذان على جمل، ولم يعرف له خبر بعد ذلك اليوم، وقتل أولاد حسنويه، إلا بدراً فإنه ترك على حاله، وأقر على عمله، وكان عاقلاً، لبيباً، حازماً، كريماً، حليماً، وسيرد من أخباره ما يعلم به ذلك، إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك عضد الدولة قلعة سندة:

وفيها استولى عضد الدولة على قلاع أبي عبدالله المري بنواحي الجبل، وكان منزله بسندة، وله فيها مساكن نفيسة، وكان قديم البيت، فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم، فبقوا كذلك إلى أن أطلقهم الصاحب بن عباد فيما بعد، واستخدم ابنه أبا طاهر، واستكتبه، وكان حسن الخط واللفظ.

.ذكر الحرب بين عسكر العزيز وابن جراح وعزل قسام عن دمشق:

في هذه السنة سيرت العساكر من مصر لقتال المفرج بن جراح.
وسبب ذلك أن ابن جراح عظم شأنه بأرض فلسطين، وكثر جمعه، وقويت شوكته، وبالغ هو في العيث والفساد، وتخريب البلاد، فجهز العزيز بالله العساكر وسيرها، وجعل عليها القائد يلتكين التركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه من العرب، من قيس وغيرها، جمع كثير، وكان مع ابن جراح جمع يرمون بالنشاب، ويقاتلون قتال الترك، فالتقوا ونشبت الحرب بينهما، وجعل يلتكين كميناً، فخرج على عسكر ابن جراح، من وراء ظهورهم، عند اشتداد الحرب، فانهزموا وأخذتهم سيوف المصريين، ومضى ابن جراح منهزماً إلى إنطاكية، فاستجار بصاحبها فأجاره؛ وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر عظيمة يريد بلاد الإسلام، فخاف ابن جراح، وكاتب بكجور بحمص والتجأ إليه.
وأما عسكر مصر فإنهم نازلوا دمشق، مخادعين لقسام، لم يظهروا له إلا أنهم جاؤوا لإصلاح البلد، وكف الأيدي المتطرقة إلى الأذى؛ وكان القائد أبو محمود قد مات سنة سبعين وهو والي البلد، ولا حكم له، وإنما الحكم لقسام، فلما مات قام بعده في الولاية جيش بن الصمصامة، وهو ابن أخت أبي محمود، فخرج إلى يلتكين وهو يظن أنه يريد إصلاح البلد، فأمره أن يخرج هو ومن معه وينزلوا بظاهر البلد، ففعلوا. وحذر قسام، وأمر من معه بمباشرة الحرب، فقاتلوا دفعات عدة؛ فقوي عسكر يلتكين، ودخلوا أطراف البلد، وملكوا الشاغور، وأحرقوا ونهبوا، فاجتمع مشايخ البلد عند قسام، وكلموه في أن يخرجوا إلى يلتكين، ويأخذوا أماناً لهم وله، فانخذل وذل، وخضع بعد تجبره وتكبره وقال: افعلوا ما شئتم.
وعاد أصحاب قسام إليه، فوجدوه خائفاً، ملقياً بيده، فأخذ كل لنفسه. وخرج شيوخ البلد إلى يلتكين، فطلبوا منه الأمان لهم ولقسام، فأجابهم إليه وقال: أريد أن أتسلم البلد اليوم؛ فقالوا: افعل ما تؤمر! فأرسل والياً يقال له ابن خطلخ، ومعه خيل ورجل.
وكان مبدأ هذه الحرب والحصر في المحرم سنة سبعين لعشر بقين منه، والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه، ولم يعرض لقسام ولا لأحد من أصحابه، وأقام قسام في البلد يومين ثم استتر، فأخذ كل ما في داره وما حولها من دور أصحابه وغيرهم، ثم خرج إلى الخيام، فقصد حاجب يلتكين وعرفه نفسه، فأخذه وحمله إلى يلتكين، فحمله يلتكين إلى مصر، فأطلقه العزيز، واستراح الناس من تحكمه عليهم، وتغلبه بمن تبعه من الأحداث من أهل العيث والفساد.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها توفي علي بن محمد الأحدب المزور، وكان يكتب على خط كل واحد فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه؛ وكان عضد الدولة إذا أراد الإيقاع بين الملوك أمره أن يكتب على خط بعضهم إليه في الموافقة على من يريد إفساد الحال بينهما، ثم يتوصل ليصل المكتوب إليه، فيفسد الحال. وكان هذا الأحدب ربما ختمت يده لهذا السبب.
وفيها زادت الفرات زيادة عظيمة جاوزت المألوف، وغرق كثير من الغلات، وتمردت الصراة، وخربت قناطرها العتيقة والجديدة، وأشفى أهل الجانب الغربي من بغداد على الغرق، وبقيت الزيادة بها وبدجلة ثلاثة أشهر ثم نقصت.
وفيها زفت ابنة عضد الدولة إلى الخليفة الطائع، ومعها من الجواهر شيء لا يحصى.
وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة من عنبر وزنها ستة وخمسون رطلاً؛ وحج بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوي، وخطب بمكة والمدينة للعزيز بالله صاحب مصر العلوي.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن علي الرازي، إمام الفقهاء الحنفية في زمانه، وطلب ليلي قضاء القضاة، فامتنع، وهو من أصحاب الكرخي.
وفيها توفي الزبير بن عبد الواحد بن موسى أبو يعلى البغدادي، سمع البغوي وابن صاعد، وسافر إلى أصبهان وخراسان وأذربيجان وغيرها، وسمع فيها الكثير، وتوفي بالموصل هذه السنة؛ ومحمد بن جعفر بن الحسين بن محمد أبو بكر المفيد، المعروف بغندر، توفي بمفازة بخارى؛ وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس؛ وأبو محمد علي بن الحسن الأصبهاني؛ والحسن ابن بشر الآمدي.
وفيها توفي القائد أبو محمود إبراهيم بن جعفر والي دمشق للعزيزي، وقام بعده جيش بن الصمصامة. ثم دخلت:

.سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة:

.ذكر عزل ابن سيمجور عن خراسان:

في هذه السنة عزل أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان، واستعمل عوضه حسام الدولة أبو العباس تاش.
وكان سبب ذلك أن الأمير نوح بن منصور لما ملك خراسان وما وراء النهر، وهو صبي، استوزر أبا الحسين العتبي، فقام في حفظ الدولة القيام المرضي؛ وكان محمد بن سيمجور قد استوطن خراسان، وطالت أيامه فيها، فلا يطيع إلا فيما يريد، فعزله أبو الحسين العتبي عنها، واستعمل مكانه حسام الدولة أبا العباس تاش، وسيره من بخارى إلى نيسابور في هذه السنة، فاستقر بها ودبر خراسان، ونظر في أمورها، وأطاعه جندها.

.ذكر استيلاء عضد الدولة على جرجان:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير.
وسبب ذلك أن عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة انهزم فخر الدولة، فلحق بقابوس، كما ذكرناه، وبلغ ذلك عضد الدولة، فأرسل إلى قابوس يبذل له الرغائب من البلاد، والأموال، والعهود، وغير ذلك، ليسلم إليه أخاه فخر الدولة، فامتنع قابوس من ذلك، ولم يجب إليه. فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة، وسيره، ومعه العساكر، والأموال، والعدد، إلى جرجان.
وبلغ الخبر قابوساً، فسار إليه، فلقيه بنواحي أستراباذ، فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر، فانهزم قابوس وأصحابه في جمادى الأولى، وقصد قابوس بعض قلاعه التي فيها ذخائره وأمواله، فأخذ ما أراد وسار نحو نيسابور، فلما وردها لحق به فخر الدولة، وانضم إليهما من تفرق من أصحابهما.
وكان وصولهما إليها. عند ولاية حسام الدولة أبي العباس تاش خراسان، فكتب حسام الدولة إلى الأمير أبي القاسم نوح بن منصور يعرفه خبر وصولهما، وكتبا أيضاً إلى نوح يعرفانه حالهما، ويستنصرانه على مؤيد الدولة. فوردت كتب نوح على حسام الدولة يأمره بإجلال محلهما، وإكرامهما، وجمع العساكر والمسير معهما، وإعادتهما إلى ملكهما، وكتب وزيره أبو الحسين بذلك أيضاً.

.ذكر مسير حسام الدولة وقابوس إلى جرجان:

فلما وردت الكتب من الأمير نوح على حسام الدولة بالمسير بعساكر خراسان جميعها مع فخر الدولة وقابوس، جمع العساكر وحشد، فاجتمع بنيسابور عساكر سدت الفضاء، وساروا نحو جرجان فنازلوها وحصروها، وبها مؤيد الدولة، ومعه من عساكره وعساكر أخيه عضد الدولة جمع كثير، إلا أنهم لا يقاربون عساكر خراسان، فحصرهم حسام الدولة شهرين يغاديهم القتال ويراوحهم، وضاقت الميرة على أهل جرجان، حتى كانوا يأكلون نخالة الشعير معجونة بالطين، فلما اشتد عليهم الأمر خرجوا من جرجان، في شهر رمضان، على عزم صدق القتال إما لهم وإما عليهم. فلما رآهم أهل خراسان ظنوها كما تقدم من الدفعات، يكون قتال، ثم تحاجز، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فرأوا الأمر خلاف ما ظنوه.
وكان مؤيد الدولة قد كاتب بعض قواد خراسان، يسمى فائق الخاصة، وأطعمه ورغبه، فأجابه إلى الأنهزام عند اللقاء؛ وسيرد من أخبار فائق هذا ما يعرف به محله من الدولة.
فلما خرج مؤيد الدولة، هذا اليوم، حمل عسكره على فائق وأصحابه، فانهزم هو ومن معه، وتبعه الناس، وثبت فخر الدولة، وحسام الدولة في القلب، واشتد القتال إلى آخر النهار، فلما رأوا تلاحق الناس في الهزيمة لحقوا بهم، وغنم أصحاب مؤيد الدولة منهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وأخذوا من الأقوات شيئاً كثيراً.
وعاد حسام الدولة، وفخر الدولة، وقابوس إلى نيسابور، وكتبوا إلى بخارى بالخبر، فأتاهم الجواب يمنيهم، ويعدهم بانفاذ العساكر والعود إلى جرجان والري، وأمر الأمير نوح سائر العساكر بالمسير إلى نيسابور، فأتوها من كل حدبٍ ينسلون، فاجتمع بظاهر نيسابور من العساكر أكثر من المرة الأولى، وحسام الدولة ينتظر تلاحق الأمداد ليسير بهم، فأتاهم الخبر بقتل الوزير أبي الحسين العتبي، فتفرق ذلك الجمع، وبطل ذلك التدبير.
وكان سبب قتله أن أبا الحسن بن سيمجور وضع جماعة من المماليك على قتله، فوثبوا به فقتلوه، فلما قتل كتب الرضي نوح بن منصور إلى حسام الدولة يستدعيه إلى بخارى ليدبر دولته، ويجمع ما انتشر منها بقتل أبي الحسين، فسار عن نيسابور إليها، وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسين، وكان قتله سنة اثنتين وسبعين.

.ذكر قتل الأمير أبي القاسم أمير صقلية وهزيمة الفرنج:

في هذه السنة، في ذي القعدة، سار الأمير أبو القاسم، أمير صقلية، من المدينة يريد الجهاد.
وسبب ذلك أن ملكاً من ملوك الفرنج، يقال له بردويل، خرج في جموع كثيرة من الفرنج إلى صقلية، فحصر قلعة ملطة وملكها، وأصاب سريتين للمسلمين، فسار الأمير أبو القاسم بعساكره ليرحله عن القلعة، فلما قاربها خاف وجبن، فجمع وجوه أصحابه، وقال لهم: إني راجع من مكاني هذا فلا تكسروا علي رأيي. فرجع هو وعساكره.
وكان أسطول الكفار يساير المسلمين في البحر، فلما رأوا المسلمين راجعين أرسلوا إلى بردويل، ملك الروم، يعلمونه ويقولون له: إن المسلمين خائفون منك، فالحق بهم فإنك تظفر. فجرد الفرنجي عسكره من أثقالهم، وسار جريدة، وجد في السير، فأدركهم في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين، فتعبأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتدت الحرب بينهم، فحملت طائفة من الفرنج على القلب والأعلام، فشقوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفرق كثير من المسلمين عن أميرهم، واختل نظامهم، فوصل الفرنج إليه، فأصابته ضربة على أم رأسه فقتل، وقتل معه جماعة من أعيان الناس وشجعانهم.
ثم إن المنهزمين من المسلمين رجعوا مصممين على القتال ليظفروا أو يموتوا، واشتد حينئذ الأمر، وعظم الخطب على الطائفتين، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل، وأسر من بطارقتهم كثير وتبعوهم إلى أن أدركهم الليل، وغنموا من أموالهم كثيراً. وأفلت ملك الفرنج هارباً ومعه رجل يهوديٌ كان خصيصاً به، فوقف فرس الملك، فقال له إليهودي: اركب فرسي، فإن قتلت فأنت لولدي؛ فركبه الملك وقتل إليهودي، فنجا الملك إلى خيامه وبها زوجته وأصحابه فأخذهم وعاد إلى رومية.
ولما قتل الأمير أبو القاسم كان معه ابنه جابر، فقام مقام أبيه، ورحل بالمسلمين لوقتهم، ولم يمكنهم من إتمام الغنيمة، فتركوا كثيراً منها، وسأله أصحابه ليقيم إلى أن يجمع السلاح وغيره ويعمر به الخزائن، فلم يفعل.
وكانت ولاية أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان عادلاً، حسن السيرة، كثير الشفقة على رعيته والإحسان إليهم، عظيم الصدقة، ولم يخلف ديناراً ولا درهماً ولا عقاراً، فإنه كان قد وقف جميع أملاكه على الفقراء وأبواب البر.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وقع حريق بالكرخ ببغداد فاحترق فيها مواضع كثيرة هلك فيها خلق كثير من الناس، وبقي الحريق أسبوعاً.
وفيها قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي، وألزمه منزله، وعزله عن أعماله التي كان يتولاها، وكان حنفي المذهب، شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه، قاتله الله! وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب، وكان القبض عليه سنة سبع وستين.
وكان سبب قبضه أنه كان يكتب عن بختيار كتباً في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة، فكان ينصح صاحبه، فمما كتبه عن الخليفة الطائع إلى عضد الدولة في المعنى، وقد لقب عز الدولة بشاهنشاه، فتزحزح له عن سنن المساواة، فنقم عليه عضد الدولة ذلك، وهذا من أعجب الأشياء، فإنه كان ينبغي أن يعظم في عينه لنصحه لصاحبه، فلما أطلقه أمره بعمل كتاب يتضمن أخبارهم ومحاسنها، فعمل التاجي في دولة الديلم.
وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه، فلما وصل إلى الملك قيل له ليقبل الأرض بين يديه، فلم يفعل، فقيل: لا سبيل إلى الدخول إلا مع تقبيل الأرض؛ فأصر على الامتناع، فعمل الملك باباً صغيراً يدخل منه القاضي منحنياً ليرهم الحاضرين أنه قبل الأرض، فلما رأى القاضي الباب علم ذلك، فاستدبره ودخل منه، فلما جازه استقبل الملك وهو قائم، فعظم عندهم محله.
وفيها فتح المارستان العضدي، غربي بغداد، ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه من الأدوية.
وفي هذه السنة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الجرجاني، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالحديث وغيره من العلوم؛ والإمام محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد أبو زيد المروزي الفقيه الشافعي الزاهد، يروي صحيح البخاري عن الفربري، وتوفي في رجب؛ وأبو عبدالله محمد بن خفيف الشرازي، شيخ الصوفية في وقته، صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم الصوفي المعروف بالحصري. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة:

.ذكر ولاية بكجور دمشق:

قد ذكرنا سنة ست وستين ولاية بكجور حمص لأبي المعالي ابن سيف الدولة بن حمدان، فلما وليها عمرها؛ وكان بلد دمشق قد خربه العرب وأهل العيث والفساد مدة تحكم قسام عليها، وانتقل أهله إلى أعمال حمص، فعمرت، وكثر أهلها والغلات فيها، ووقع الغلاء والقحط بدمشق، فحمل بكجور الأقوات من حمص إليها وتردد الناس في حمل الغلات وحفظ الطرق وحماها.
وكاتب العزيز بالله بمصر، وتقرب إليه، فوعده ولاية دمشق، فبقي كذلك إلى هذه السنة.
ووقعت وحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة وبين بكجور، فأرسل سعد الدولة يأمره بأن يفارق بلده، فأرسل بكجور إلى العزيز بالله يطلب نجاز ما وعده من إمارة دمشق. وكان الوزير ابن كلس يمنع العزيز من ولايته إلى هذه الغاية.
وكان القائد يلتكين قد ولي دمشق بعد قسام، كما ذكرناه، فهو مقيم بها. فاجتمع المغاربة بمصر على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله، فدعته الضرورة إلى أن يستحضر يلتكين من دمشق، فأمره العزيز بإحضاره وتسليم دمشق إلى بكجور. فقال: إن بكجور إن وليها عصى فيها. فلم يصغ إلى قوله، وأرسل إلى يلتكين يأمره بقصد مصر، وتسليم دمشق إلى بكجور، ففعل ذلك ودخلها في رجب من هذه السنة والياً عليها، فأساء السيرة إلى أصحاب الوزير ابن كلس والمتعلقين به، حتى إنه صلب بعضهم، وفعل مثل ذلك في أهل البلد، وظلم الناس، وكان لا يخلوا من أخذ مالٍ، وقتلٍ، وصلبٍ، وعقوبة، فبقي كذلك إلى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وسنذكر هناك عزله، إن شاء الله تعالى.

.ذكر وفاة عضد الدولة:

في هذه السنة، في شوال، اشتدت علة عضد الدولة، وهو ما كان يعتاده من الصرع، فضعفت قوته عن دفعه، فخنقه، فمات منه ثامن شوال ببغداد، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن به.
وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً. ولما توفي جلس ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزياً، وكان عمر عضد الدولة سبعاً وأربعين سنة. وكان قد سير ولده شرف الدولة أبا الفوارس إلى كرمان مالكاً لها، قبل أن يشتد مرضه، وقيل إنه لما احتضر لم نطلق لسانه إلا بتلاوة {مَا أَغْنْى عَنِّي مَاليه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} الحاقة: 28.
وكان عاقلاً، فاضلاً، حسن السياسة، كثير الإصابة، شديد الهيبة، بعيد الهمة، ثاقب الرأي، محباً للفضائل وأهلها، باذلاً في مواضع العطاء، مانعاً في أماكن الحزن، ناظراً في عواقب الأمور.
قيل: لما مات عضد الدولة بلغ خبره بعض العلماء، وعنده جماعة من أعيان الفضلاء، فتذاكروا الكلمات التي قالها الحماء عند موت الإسكندر، وقد ذكرتها في أخباره، فقال بعضهم: لو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم. فقال أحدهم: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها، وطلب الربح فيها فخسر روحه فيها.
وقال الثاني: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم فيها فهذا انتباهه.
وقال الثالث: ما رأيت عاقلاً في عقله، ولا غافلاً في غفلته مثله، لقد كان ينقض جانباً وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يظن أنه غانم.
وقال الرابع: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغباً عنها جدت له.
وقال الخامس: ترك هذا الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال السادس: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحاً زعزعت هذا الركن لعصوفٌ.
وقال السابع: إنما سلبك من قدر عليك.
وقال الثامن: أما إنه لو كان معتبراً في حياته لما صار عبرةً في مماته.
وقال التاسع: الصاعد في درجات الدنيا إلى استفال، والنازل في درجاتها إلى تعال.
وقال العاشر: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنةً تقيك، إن في ذلك لعبرة للمعتبرين، وإنك لآية للمستبصرين.
وبنى على مدينة النبي، صلى الله علية وسلم، سوراً. وله شعر حسن، فمن شعره لما أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته بختيار، ويطلب الأمان، فقال عضد الدولة:
أأفاق حين وطئت ضيق خناقه ** يبغي الأمان، وكان يبغي صارما

فلأركبنّ عزيمةً عضديّةً، ** تاجيّة، تدع الأنوف رواغما

وقال أبياتاً منها بيت لم يفلح بعده، وهي هذه:
ليس شرب الكأس إلاّ في المطر، ** وغناءٍ من جوارٍ في السّحر

غانياتٍ، سالباتٍ للنّهى، ** ناغماتٍ في تضاعيف الوتر

مبرزات الكاس من مطلعها، ** ساقيات الراح من فاق البشر

عضد الدولة وابن ركنها،، ** ملك الأملاك غلاّب القدر

وهذا البيت هو المشار إليه.
وحكي عنه أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة، فأمر أبا نصر خواشاذه أن يتقدم إلى الخازن بأن يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام. قال أبو نصر: فأنسيت ذلك أربعة أيام، فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت: أنسيته؛ فأغلظ لي، فقلت: أمس استهل الشهر، والساعة نحمل المال، وما ها هنا ما يوجب شغل القلب.
فقال: المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط، ألا تعلم أنا إذا أطلقنا لهم مالهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم، فإذا أخرنا ذلك عنهم، حتى استهل الشهر الآخر، حضروا عند عارضهم وطالبوه، فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني، فيعدهم، ثم يحضرونه في اليوم الثالث؛ ويبسطون ألسنتهم، فتضيع المنة، وتحصل الجرأة، ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح.
وكان لا يعول في الأمور إلا على الكفاة، ولا يجعل للشفاعات طريقاً إلى معارضة من ليس من جنس الشافع، ولا فيما يتعلق به.
حكي عنه أنه مقدم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله، فقال: ليس هذا من أشغالك، إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد، ونقل مرتبة جندي، وما يتعلق بهم، وأما الشهادة وقبولها فهو إلى القاضي وليس لنا ولا لك الكلام فيه، ومتى عرف القضاة من إنسان ما يجوز معه قبول شهادته، فعلوا ذلك بغير شفاعة.
وكان يخرج في ابتداء كل سنة شيئاً كثيراً من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده، ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه.
وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا.
وكان محباً للعلوم وأهلها، مقرباً لهم، محسناً إليهم، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب منها الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات، والملكي في الطب، والتاجي في التاريخ، إلى غير ذلك، وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر غير ذلك من المصالح العامة، إلا أنه أحدث في آخر أيام رسوماً جائرة في المساحة، والضرائب على بيع الدواب، وغيرها من الأمتعة، وزاد على ما تقدم، ومنع من عمل الثلج، والقز، وجعلهما متجراً للخاص، وكان يتوصل إلى أخذ المال بكل طريق.
ولما توفي عضد الدولة قبض على نائبه أبي الريان من الغد، فأخذ من كمه رقعة فيها:
أيا واثقاً بالدهر عند انصرافه! ** رويدك إنّي بالزمان أخو خبر

ويا شامتاً مهلاً، فكم ذي شماتةٍ ** تكون له العقبى بقاصمة الظّهر